مجموعة مشاهد لم تمح من ذاكرتي منذ كان عمري 9 سنوات، كان لنا جار في الشاليه المجاور لنا على شاطئ المندرة، وهو أحد شواطئ الإسكندرية، وعرض على أسرتى هذا الجار أن يعلمنا السباحة أنا وأخى الأصغر.

ومع أول درس بدأت السباحة وقطعت مسافة، وحاولت أن أقف فاكتشفت أن ارتفاع البحر أعلى من طولي، فبدأت أغرق وتوالت المشاهد أمام عيني  لتحفر في ذاكرتي.

المشهد الأول أغرق وأطفو لأري الشخص الذي يدربنا واقف لا يحرك ساكناً، يشاهدني وأنا أغرق ولا يتحرك، وأغطس وأطفو من جديد وهذا الشخص كما هو، وبدأ  أخى الأصغر في السباحة تجاهي لإنقاذي، وأغطس وأطفو وما زال المشهد يتكرر المدرب واقف مكانه وأخي يقترب في اتجاهي، وعندما أطفو تلك المرة أرى أخى بجانبي وبدأ يتخطاني ومستمر في السباحة إلى الأعمق وأغطس مرة أخرى وأنا أمد يدي للإمساك بأخي فأمسك يده، وفي تلك اللحظه تلامس أطراف رجلى الأرض لأضرب الأرض ضربه خفيفة ومع حركة الموج صار طولي أطول من ارتفاع ماء البحر وتنقذنا العناية الإلهية أنا وأخي والحمد لله … ثم نعرف فيما بعد أن هذا المدرب لا يعرف السباحة !!! نعم لا يعرف السباحة. وبالتالي لا يعرف التدريب على أولى مبادئ السباحة.

هذا القاتل الندل أراه في كل مرشد (mentor) أو محكم أو مدرب في مجال المشروعات الصغيرة وريادة الأعمال يفتي بغير علم، ويصدر رأيه وكأنه عين العلم يتحدث بكل ثقة بملئ فيه مؤكداً  أن ما يقوله هو الخلاص والطريق الوحيد لنجاح هذا المشروع، وأشك كثيراً مع كل تلك الثقه أنه يعانى من تأثير دانينغ وكروجر Dunning–Kruger effect.

والتسويق هو أكسير الحياه لاى مشروع، فالتسويق يبدأ بالبحث عن المشكلة أو الطلب وحجمه وجمهوره وسلوكهم، ثم يأتي بعد ذلك تخليق المنتج الذي يلبي الاحتياج أو يحل المشكلة، نعم التسويق يبدء من قبل وجود المنتج فى شكله النهائى، تعلمت أن الدراسة السوقية والتسويقية حجر الأساس لنجاح أي مشروع، وأن سر الفشل هو افتراض أن الرأيي الشخصي هو رأى العملاء المحتملين.

وأذكر تجربة تعلمت منها كثيراً، في أثناء دراستي للتسويق الرقمي في إنجلترا في شركة eMarketer، وأثناء دراسة موضوع تجربة المستخدم لتطبيقات الموبايل Mobile App UX، عرض علينا المدرب تصميم لشاشة الموبايل لتطبيق لسلسة سوبر ماركت تيسكو Tesco ، فكان التصميم رائع جداً وأنيق، ثم عرض علينا تصميم آخر أقل جودة، فكان رأينا جميعاً أن التصميم الثاني ضعيف كما أنني كنت أرى أيضاً أنه غير متوازن، فأخبرنا المدرب أنه تم استبدال التصميم الثاني بالأول، كانت صدمة بالنسبة لنا، استبدال الذي هو أدنى بالذى هو أفضل!! نعم كانت الإجابة صادمة لنا وهى أنه مع التغيير للتصميم الجديد زادت نسبة تحويل الزوار الى عملاء بنسبة 20%.

ولنتأمل كيف حدث هذا التطوير، استغرق هذا التطوير 6 أشهر، بدأ بوضع مجموعة من الفرضيات على سبيل المثال وضع زر “أضف إلى عربة التسوق” هل يكون باللون الأحمر أم الأخضر أم الأبيض، الإجابة: “لا تفترض” حتى ولو كانت الدراسات تقول أن اللون الأحمر أفضل، بل يجب اختبار هذا المتغير مع المستخدمين الحقيقيين، بحيث نغير لون  زر “أضف إلى عربة التسوق” مع تثبيت باقي المتغيرات ثم نقيس تأثير هذا التغيير فى البيئة الحقيقية مع المستخدمين الحقيقيين. وهكذا تم وضع 2443 سيناريو مختلف (رأى مختلف) ثم تمت دراسة كل سيناريو على حدة، إلى أن تم الوصول إلى التصميم النهائي والاختيار تم بناءاً على تحديد أى متغير يوثر ايجابياً فى كم من الزوار يتم تحويلهم لعملاء وبالتالي زيادة نسبة المبيعات.

فنصيحة لكل صاحب فكرة  أو مشروع أو رائد أعمال، إذا كنت في البحر لا تستمع لنصائح من هم على الشاطئ، وعندما تتعرض لنصيحة أو مقترح أو أمر اسأل صاحب النصيحة، هل ذلك رأي شخصي؟ أم رأى قائم على خبرة؟ أم تلك هى أحسن الممارسات؟ أم تلك النصيحة قائمة على مبادئ وأسس ونظريات؟ أم هى تجارب علمية؟ أم أن هناك حالات تمت دراستها فى نفس البيئة لنفس الجمهور؟

واحذر من بعض الخبراء، فسنوات الخبرة الحقيقية ليست سنوات تقضي على شاطئ البحر وأنت تشاهد مباريات كرة السلة لتصبح خبيراً في كرة السلة.

فكل رأى غير مبني على علم ممكن أن يكون سبباً في قتل مشروع ناشئ، أو فكرة قد تكون يوماً ما عظيمة.